فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في تفسير {فِي الدنيا}:

قوله تعالى: {فِي الدنيا} فيه خسمة أوجهٍ:
أظهرها: أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعًا.
والثاني: أن يتعلَّق ب {يبيِّن}، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها.
وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها.
ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب {تَتَفَكَّرُونَ}.
وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.
والثالث: أن تتعلَّق بنفس {الآيَاتِ} لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة.
قال مكِّيٌّ: معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ قال ابن عطيَّة: فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات.
ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان فهو فَاسِدٌ، لأنَّ {الآيَاتِ} لا تَعْمَلُ شيئًا ألْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا.
وإن عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى: {الآيَاتِ}، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالًا من {الآيَات} ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال: يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ.
الرابع: أن تكون حالًا من {الآيَاتِ} كما تقدَّم تقريره الآن.
الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضًا، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا: الطويل:
لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ** وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ

فالبيت عندهم موصولٌ.
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.
والتَّفكُّر: تفعل من الفكر، والفكر: الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنه فيه وردَّده.
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}.
قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}، {إصْلاَحٌ} مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين: إمَّا وصفه بقوله: {لَهُم}، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و{خيرٌ} خبره.
و{إصْلاَحٌ} مصدرٌ حذف فاعله، تقديره: إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم.
قال أبو البقاء: فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: خَيْرٌ لَهُم، أي: إصلاحهم نافع لكم.
قال بعض العلماء: هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضًا النَّظر في حال الولي، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصّرًا في حقّ اليتيم.
وقال بعضهم: الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجرًا.
وقال آخرون: الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى: أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم.
قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} المخالطة: الممازجة، وقيل: جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع: الخلاط، ويقال: خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط: الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.
قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} الفاء جواب الشّرط، و{إِخْوَانُكم} خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم.
والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز: {فَإِخْوَانُكُمْ} نصبًا بفعل مقدَّر، أي: فقد خالطتهم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضًا في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء قال ولو نصب كان صوابًا، وقال أبو البقاء: وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم، أي: فقد خالطتُهم إخوانَكم. والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضًا.
وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ} إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه.
ووقع جواب السُّؤال بجملتين.
إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدأ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهودًا في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب {خَيْر} الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه.
والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ الله} مفعول {شَاءَ} محذوف، أي: إعناتكم.
وجواب لو: {لأعنَتَكم}.
والمشهور قطع همزة {لأَعْنَتَكُم}؛ لأنَّها همزة قطعٍ.
وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها ألبتَّة، وهي كقراءة: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذًا وتوجيهًا.
ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطًا، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً.
والعنت: المشَقَّة والإعْنَات الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال: أعْنَتَ فلانٌ فلانًا، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتًا: إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ: إذا كانت شاقَّةً كدودًا، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتًا: إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري.
قال ابن الأنباريّ: أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب: فلان يتعنت فلانًا، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه.
وقال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، أي: شديدٌ عليه ما شقّ عليكم.
ويقال: أعنتني في السُّؤال، أي: شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ.
قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا لكم. اهـ. باختصار.

.فائدة في المخالطة:

والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعًا يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله يعلم المفسد من المصلح} جملة معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، ومعنى ذلك: أنه يجازي كلًا منهما على الوصف الذي قام به، وكثيرًا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير، لأن من علم بالشيء جازى عليه، فهو تعبير بالسبب عن المسبب، و: يعلم، هنا متعدٍ إلى واحد، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضي للتجدد، وإن كان علم الله لا يتجدد، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح، وهما وصفان يتجدّدان من الموصوف بهما، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما، وتعلق العمل بالمفسد أولًا ليقع الإمساك عن الإفساد.
ومن، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب، وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم لإن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح. ولأنه لما قيل: {قل إصلاح لهم خير} فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح. ومقابله. اهـ.

.تفسير الآية رقم (221):

قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان الورع مندوبًا إليه محثوثًا عليه لاسيما في أمر اليتامى فكان التحذير بهذا المقام أولى قال: {المفسد} أي الذي الفساد صفة له {من المصلح} فاتقوا الله في جميع الأمور ولا تجعلوا خلطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم.
ولما كان هذا أمرًا لا يكون في بابه أمر أصلح منه ولا أيسر منّ عليهم بشرعه في قوله: {ولو شاء الله} أي بعظمة كماله {لأعنتكم} أي كلفكم في أمرهم وغيره ما يشق عليكم مشقة لا تطاق فحد لكم حدودًا وعينها يصعب لوقوف عندها وألزمكم لوازم يعسر تعاطيها، من الإعنات وهو إيقاع العنت وهو أسوأ الهلاك الذي يفحش نعته- قاله الحرالي. ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {عزيز} يقدر على ما يريد {حكيم} يحكمه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء منه. ولما ذكر تعالى فيما مر حلّ الجماع في ليل الصيام وأتبع ذلك من أمره ما أراد إلى أن ذكر المخالطة على وجه يشمل النكاح في سياق مانع مع الفساد داع إلى الصلاح وختم بوصف الحكمة ولما كان النكاح من معظم المخالطة في النفقة وغيرها وكان الإنسان جهولًا تولى سبحانه وتعالى بحكمته تعريفه ما يصلح له وما لا يصلح من ذلك، وأخر أمر النكاح عن بيان ما ذكر معه من الأكل والشرب في ليل الصيام لأن الضرورة إليهما أعظم، وقدمه في آية الصيام لأن النفس إليه أميل فقال عاطفًا على ما دل العطف على غير مذكور على أن تقديره: فخالطوهم وأنكحوا من تلونه من اليتيمات على وجه الإصلاح إن أردتم {ولا تنكحوا} قال الحرالي: مما منه النكاح وهو إيلاج نهد في فرج ليصيرا بذلك كالشيء الواحد- انتهى. وهذا أصله لغة، والمراد هنا العقد لأنه استعمل في العقد في الشرع وكثر استعماله فيه وغلب حتى صار حقيقة شرعية فهو في الشرع حقيقة في العقد مجاز في الجماع وفي اللغة بالعكس وسيأتي عند {حتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] عن الفارسي قرينة يعرف بها مراد أهل اللغة {المشركات} أي الوثنيات، والأكثر على أن الكتابيات مما شملته الآية ثم خصت بآية: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] {حتى يؤمن} فإن المشركات شر محض {ولأمة} رقيقة {مؤمنة} لأن نفع الإيمان أمر ديني يرجع إلى الآخرة الباقية {خير} على سبيل التنزيل {من مشركة} حرة {ولو أعجبتكم} أي المشركة لأن نفع نسبها ومالها وجمالها يرجع إلى الدنيا الدنية الفانية. قال الحرالي: فانتظمت هذه الآيات في تبيين خير الخيرين وترجيح أمر الغيب في أمر الدين والعقبى في أدنى الإماء من المؤمنات خلقًا وكونًا وظاهر صورة على حال العين في أمر العاجلة من الدنيا في أعلى الحرائر من المشركات خلقًا وظاهر صورة وشرف بيت- انتهى {ولا تنكحوا} أيها الأولياء {المشركين} أي الكفار بأي كفر كان شيئًا من المسلمات {حتى يؤمنوا} فإن الكفار شر محض {ولعبد} أي مملوك {مؤمن خير} على سبيل التنزيل {من مشرك} حر {ولو أعجبكم} أي المشرك وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما إعلامًا بأن خيريتهما أمر مقطوع به لا كلام فيه وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدونه دنيا فشرفه الإيمان ومن يعدونه شريفًا فحقره الكفران، وكذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدل على أنه وإن كان دنيا موضع التفضيل لعلو وصفه، وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصرًا عليه لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه. اهـ.